فان غوغ.. رسام ألوا ن الشمس والحياة
عندما أطلق فان غوغ النار على نفسه في العام 1890، بعد حياة قصيرة ومأساوية لوثتها الفضائح، لم يكن أحد يعرف أي شيء عن فنه. وبعد مرور 150 عاما على مولده في 30 آذار/مارس العام 1853 يحتفل متحف فان غوغ بمدينة أمستردام الهولندية الذي يضم أكبر مجموعة لروائع أعماله بذكرى مولده من خلال تنظيم معارض وأحداث خاصة على مدار العام الجاري.
وجعلت قرية زندرت الهولندية التي ولد بها فان غوغ العام الحالي هو "عام فان غوغ" تمجيدا لذكراه. ويعد فان غوغ الذي اشتهر باستخدام الألوان بكثافة وخطوط الفرشاة البارزة أعظم فنان هولندي بعد رمبرانت. ويستضيف معرضه أكثر من 200 لوحة و600 رسم له تجذب السائحين من جميع أنحاء المعمورة.

ويتوافد على المعرض نحو 1,3 مليون زائر من الصين وحتى كاليفورنيا. والإقبال على البطاقات والملصقات التي تحمل صورا للوحاته ورسوماته هائل.

وتملكت حالة من اليأس الشديد فان غوغ قبل عامين من انتحاره. وغطي تابوته بزهور عباد الشمس التي كان يعشقها، ووضع عليه حامل لوحات الرسم وكرسيه وفرشاته. وحقق فان غوغ الذي كان مجهولا في حياته القصيرة والمأساوية شهرة عالمية بعد مماته فقط.

ولمعرفة المزيد عن حياة الفنان الكبير فان كوخ فقد تساعد رسائل «فان غوغ» إلى أخيه «ثيو» القارئ على متابعة تطوره الفني، وفهم ما تثيره لوحاته في نفس المشاهد، وتقلبات الألوان عليها.

توقع «فان غوغ» أن يصل سعر لوحته «أزهار عبّاد الشمس» إلى 500 فرنك وقت إنجازها، معتبرا إياها علامته الفارقة كرسام. أليس غريبا أن يكون الفنان الذي فشل في بيع أي لوحة أثناء حياته عدا لوحة «كرمة العنب الأحمر» قادرا بأعماله، وبعد مائة وعشرين عاما، أن يمنحنا ذلك الإلهام بعظمة الطبيعة وسحرها؟

تكشف الرسائل الأولى إلى أخيه «ثيو»، عن عزمه في منتصف العشرين من عمره أن يكون راهبا، معبرا بذلك عن حاجته لأن يكون مفيدا للآخرين، أو كما يسميه «إرضاء للحس العميق بالواجب». إلا أن المشكلة التي واجهته، هي صعوبة تقبله من قبل السلك الديني، لنكرانه المطلق للذات، والمضي إلى حد متطرف في مساعدة عمال الفحم في بلجيكا، إذ كان يقضي كل أوقات فراغه مع المرضى، موزعا مرتبه الهزيل عليهم، ومقدما لهم مختلف المساعدات الأخرى. إضافة إلى ذلك، كان عقله المتفتح عائقا أمام تقبل أي نوع من التعاليم الجامدة، لذلك فشل في دراسته، ولم يستطع الحصول حتى على أدنى درجة في السلم الكهنوتي.

وبنفس الحميّة التي دفعته للانتماء إلى السلك الديني، اقتنع بأن الرسم الذي كان يعتبره، إلى حد تلك الفترة، هواية، هو المجال الذي سيخدم بواسطته الناس، فيصبح الرسم واجبا، وواجبا مقدسا، لكن كيف يمكن البدء، وهو لم يدرس الرسم أكاديميا؟ كل شيء سهل بالنسبة إلى «فان غوغ». ومع أنه كان في السابعة والعشرين من عمره، لكنه اندفع بحماسة للدراسة على أيدي رسامين محترفين بأخذه دروسا خاصة معهم، مواصلا في الوقت نفسه تأجير النساء (الموديلات) لعمله، دافعا معظم نقوده التي كان يحصل عليها من أخيه «ثيو» لهن. وحينما وصف نفسه ذات مرة أمام أحد أصدقائه الرسامين بأنه فنان، غضب الصديق، وبدوره لم يتراجع «فان غوغ» عن رأيه، «لأن هذه الكلمة تعني بالنسبة إليّ: البحث دائما، دون إيجاد الحل النهائي، ودون العثور الكلي على ضالتنا، إنها بالضبط عكس الجملة: أنا أعرفها، وأنا وجدتها.. على قدر علمي كلمة فنان تعني: أنا في طور البحث، أنا أكافح، إحنا منغمر، كليا، في عملية البحث من أعماق قلبي».

تسلط رسائل «فان غوغ» الضوء على ما تعنيه كلمة «الكدح» في حياته، وظهر ذلك جليا في لوحاته، التي صارت تقليدا للوجود الحيوي لما هو قيد التصوير، أي فعل كينونته، مثلا، عندما يصور الأرض المنقوبة في حقل، ادخل إلى لوحته، حركة المحراث وهو يشق الأثلام، في الارض، فحيثما التفت كان يرى كدح الوجود، الذي صار هو الواقع بالنسبة إليه.

لقد قاده موقفه هذا من الحياة، إلى البحث عن أساليب جديدة في الرسم والتلوين، تمكنه من التعبير عن عواطفه الجياشة نحو الناس وعناصر الطبيعة المختلفة. عن موقفه هذا كتب «فان غوغ»: «كان بودي رسم بورتريت لصديق فنان، أشقر الشعر، رجل ذي أحلام كبيرة، يعمل مثلما يغني العندليب.. أردت نقل إعجابي به إلى اللوحة، لذلك رسمته كما هو على أعلى درجة من الصدق. للبدء بالرسم: اللوحة لم تكتمل بعد، سألوّنها بشكل عشوائي. بالغت في شقرة الشعر للحصول على درجات عديدة من اللون البرتقالي، والكروم، والأصفر الليموني الشاحب، بالنسبة إلى خلفية اللوحة، بدلا من طلي الجدار بلون الغرفة العادي، سأستخدم اللون الأزرق العميق تعبيرا عن الأزلية. بهذه الطريقة البسيطة، سيخلق الرأس المتألق على الخلفية الزرقاء تأثيرا غامضا، مثل نجمة في السماء اللازوردية».

كانت السنوات الثلاث التي قضاها «فان غوغ» في «آرل» جنوب فرنسا، حاسمة في حياته، إذ مضى في الرسم المتواصل، ليل نهار، مطاردا مواسم الربيع في البساتين، حيث تتوهج الأشجار بأزهار النّوار الوردي والأبيض. كان يرسم في الأيام الهادئة والعاصفة، محاولا تصحيح تجاربه الفاشلة مئات المرات، وفي مرسمه أحاط نفسه برسوم يابانية وصور مطبوعة لكبار الرسامين، لغرض تقليدها، بدأب متواصل. يكتب عن ذلك لأخيه: «أنا اغبط اليابانيين على الوضوح الشديد الذي يتحلى به عملهم، إذ انه ليس مملا، ولا يبدو كأنه أنجز على عجل. عملهم بسيط كالتنفس، يرسمون مختلف الأشكال بعدة ضربات فرشاة واثقة، بنفس السهولة التي تغلق بها أزرار معطفك».

في حالة انتشائه تلك، عاش «فان غوغ» مهرجان الطبيعة حوله، بقدرته على رؤية ما يدور خلف سطح الاشياء، بقدرته على رؤية النسغ الطالع من الأسفل إلى اعلى، الى كيف تتفاعل شجرة السرو مع الريح والشمس في حركتها وتشكلها.
لقد تهدم الخط الفاصل بين الذات والعالم الخارجي، وأصبحت الطبيعة بمختلف مظاهرها قادرة على التعبير عن أغوار النفس، فالأمل يعبر عنه ببضعة نجوم، وتلهف الروح للانعتاق بإشعاع الغروب.

لذلك جاءت لوحتا أزهار عبّاد الشمس تتويجا لذلك الكدح الجنوني وتراكم خبرات هائلة في زمن قصير جدا. «سترى أن هاتين اللوحتين تشدان بصرك إليهما. انهما نوع من الرسوم التي تتغير صفاتها كلما ازددت إمعانا بها، فتصبح اكثر ثراء». كتب ذلك إلى أخيه بعد فترة قصيرة من إتمام رسمهما، من المستشفى الذي حُجر عليه فيه، لكنه أضاف في الرسالة نفسها «انا دائما ممتلئ بالندم الى حد كبير، عندما أفكر في عملي لأنه لم يكن مماثلا لما كنت احب إنجازه، آمل على المدى البعيد، ان أنجز أشياء افضل».

رسائل «فان غوغ» تجعلنا نتلمس مدى اقترابه من الواقع الى النقطة التي لم يصلها رسام قبله، والتي أتاحت له ان يمس ذلك السحر والبهاء المخفي عن الأبصار، وكان عليه، في نهاية المطاف، ان يدفع ثمن تلك الهبة السماوية النادرة. يقول «فان غوغ» في رسالة أخرى: «الموت ليس أسوأ ما يمكن أن يواجهه الفنان في حياته»، إذ قد تكون متطلبات العيش، أو الجنون او الحاسرة او الوظيفة أو غيرها عناصر اكثر تهديدا من الموت على مواصلة الفنان في تحقيق ذاته كفنان، ولعل «فان غوغ» عبـّر عن تلك القوى المعيقة له بالغربان السوداء التي اكتظ حقل القمح الذهبي بها.